فصل: تفسير الآيات (69- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن أنه قال يا رب أين أمي ثم دخل في صخرة فغاب فيها ويقال بل اتبعوه فعقروه أيضا قال الله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر} وقال تعالى: {إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها} أي احذروها {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها}.
قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هاشم هو أبو عزرة عن أبيه عبد الله بن زمعة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: {إذ انبعثت أشقاها} انبعث لها رجل من غارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة أخرجاه من حديث هشام بن عارم أي شهم عزيز أي رئيس منيع أي مطاع في قومه وقال محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب عن محمد بن خيثم عن يزيد عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ألا أحدثكم بأشقى الناس قال بلى قال رجلان أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا يعني قرنه حتى تبتل منه هذه يعني لحيته رواه ابن أبي حاتم وقال تعالى: {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} فجمعوا في كلامهم هذا بين كفر بليغ من وجوه منها أنهم خالفوا الله ورسوله في ارتكابهم النهي الأكيد في عقر الناقة التي جعلها الله لهم آية ومنها أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم فاستحقوه من وجهين أحدهما الشرط عليهم في قوله: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} وفي آية: {عظيم} وفي الأخرى: {أليم} والكل حق والثاني استعجالهم على ذلك ومنها أنهم كذبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه وهم يعلمون ذلك علما جازما ولكن حملهم الكفر والضلال والعناد على استبعاد الحق ووقوع العذاب بهم قال الله تعالى: {فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} وذكروا أنهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف لعنه الله فعرقبها فسقطت إلى الأرض ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما عاين ذلك سقبها وهو ولدها شرد عنهم فعلا أعلى الجبل هناك ورغا ثلاث مرات فلهذا قال لهم صالح: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} أي غير يومهم ذلك فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الأكيد بل لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله أي لنكبسنه في داره مع أهله فلنقتلنه ثم نجحدن قتله وننكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه ولهذا قالوا: {ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون} وقال الله تعالى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} وذلك أن الله تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم وأصبحت ثمود يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة كا أنذرهم صالح عليه السلام فلما أمسوا نادوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجهم! محمرة فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى يومان من الأجل ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى الأجل فلما كان صبيحة يوم الأحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينظرون ماذا يحل بهم من العذاب والنكال والنقمة لا يدرون كيف يفعل بهم ولا من أي جهة يأتيهم العذاب فلم أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت الأرواح وزهقت النفوس وسكنت الحركات وخشعت الأصوات وحقت الحقائق فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثا لا أرواح فيها ولا حراك بها قالوا ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة بنت السلق ويقال لها الذريعة وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها فقامت تسعى كأسرع شيء فأتت حيا من العرب فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها واستسقتهم ماء فلما شربت ماتت قال الله تعالى: {كأن لم يغنوا فيها} أي لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء {ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} أي نادى عليهم لسان القدر بهذا.
قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر قال لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت يعني الناقة ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله فقالوا من هو يا رسول الله قال هو أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه وهذا الحديث على شرط مسلم وليس هو في شيء من الكتب الستة والله أعلم.
وقد قال عبد الرزاق أيضا قال معمر أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن قال عبد الرزاق قال معمر قال الزهري أبو رغال أبو ثقيف هذا مرسل من هذا الوجه وقد جاء من وجه آخر متصلا كما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير سمعت عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال إن هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي اصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن وهكذا رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق به قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله هذا حديث حسن عزيز قلت تفرد به بجير بن أبي بجير هذا ولا يعرف إلا بهذا الحديث ولم يرو عنه سوى إسماعيل ابن أمية قال شيخنا فيحتمل أنه وهم في رفعه وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملته والله أعلم قلت لكن في المرسل الذي قبله وفي حديث جابر أيضا شاهد له والله أعلم وقوله تعالى: {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلا لهم {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} أي جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي {ولكن لا تحبون الناصحين} أي لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم المستمر بكم المتصل إلى الأبد وليس لي فيكم حيلة ولا لي بالدفع عنكم يدان والذي وجب على من اداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته وبذلته لكم ولكن الله يفعل ما يريد وهكذا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر بعد ثلاث ليال وقف عليهم وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من آخر الليل فقال يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا وقال لهم فيما قال بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم فقال له عمر يا رسول الله تخاطب أقواما قد جيفوا فقال والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله ويقال إن صالحا عليه السلام انتقل إلى حرم الله فأقام به حتى مات.
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال يا أبا بكر أي واد هذا قال وادي عسفان قال لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمها الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق إسناد حسن وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام من رواية الطبراني وفيه نوح وهود وإبراهيم.

.مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك:

قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور فأمرهم رسول الله فأهراقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم ان يدخلوا على القوم الذين عذبوا إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم وقال احمد أيضا حدثنا عفان حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم أخرجاه في الصحيحين من غير وجه وفي بعض الروايات أنه عليه السلام لما مر بمنازلهم قنع رأسه وأسرع راحلته ونهى عن دخول منازلهم إلا أن تكونوا باكين وفي رواية فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا المسعودي عن إسمعيل بن أوسط عن محمد بن أبي كبشة الأنباري عن أبيه واسمه عمرو بن سعد ويقال عامر بن سعد رضي الله عنه قال لما كان في غزوة تبوك فسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس الصلاة جامعة قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم فناداه رجل نعجب منهم يا رسول الله قال أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا إسناد حسن ولم يخرجوه وقد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة فكانوا يبنون البيوت من المدر فتخرب قبل موت الواحد منهم فنحتوا لهم بيوتا في الجبال وذكروا أن صالحا عليه السلام لما سألوه آية فأخرج الله لهم الناقة من الصخرة أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها وحذرهم بأس الله إن هم نالوها بسوء وأخبرهم أنهم سيعقرونها ويكون سبب هلاكهم ذلك وذكر لهم صفة عاقرها وأنه أحمر أزرق أصهب فبعثوا القوابل في البلد متى وجدوا مولودا بهذه الصفة يقتلنه فكانوا على ذلك دهرا طويلا وانقرض جيل وأتى جيل آخر فلما كان في بعض الأعصار خطب رئيس من رؤسائهم على ابنه بنت آخر مثله في الرياسه فزوجه فولد بينهما عاقر الناقة وهو قدار بن سالف فلم تتمكن القوابل من قتله لشرف أبويه وجديه فيهم فنشأ نشأة سريعة فكان يشب في الجمعة كما يشب غيره في شهر حتى كان من أمره أن خرج مطاعا فيهم رئيسا بينهم فسولت له نفسه عقر الناقة واتبعه على ذلك ثمانية من أشرافهم وهم التسعة الذين أرادوا قتل صالح عليه السلام فلما وقع من أمرهم ما وقع من عقر الناقة وبلغ ذلك صالحا عليه السلام جاءهم باكيا عليها فتلقوه يعتذرون إليه ويقولون إن هذا لم يقع عن ملأ منا وإنما فعل هذا هؤلاء الأحداث فينا فيقال إنه أمرهم باستدراك سقبها حتى يحسنوا إليه عوضا عنها فذهبوا وراءه فصعد جبلا هناك فلما تصاعدوا فيه وراءه تعالى الجبل حتى ارتفع فلا يناله الطير وبكى الفصيل حتى سالت دموعه ثم استقبل صالحا عليه السلام ودعا ثلاث فعندها قال صالح تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وذلك وعد غير مكذوب وأخبرهم أنهم يصبحون من غدهم صفرا ثم تحمر وجوههم في الثاني وفي اليوم الثالث تسود وجوههم فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صيحة فيها صوت كل صاعقة فأخذتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين وفي بعض هذا السياق نظر ومخالفة لظاهر ما يفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم كما قدمنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. اهـ.

.تفسير الآيات (69- 73):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضت القصة على هذا الوجه الرائع، أتبعها قصة لوط عليه السلام إذ كانت أشهر الوقائع بعدها وهي أفظع منها وأروع، وقدم عليها ما يتعلق بها من أمر إبراهيم عليها لسلام ذكر بشراه لما في ذلك كله من التنبيه لمن تعنت بطلب إنزال الملائكة في قولهم: {أو جاء معه ملك} على أن ذلك ليس عزيزًا عليه.
وقد أكثر من فعله ولكن نزولهم مرهب، وأمرهم عند المكاشفة مرعب، وأما مع الستر فلا يقطع تعنتهم، هذا مع ما في ذلك من مناسبة أمر هذا الولد لأمر الناقة في تكوين كل منهما بخارق للعادة إشارة إلى تمام القدرة وكمال العلم المبني عليه أمر السورة في إحكام الكتاب وتفصيله وتناسب جدالي نوح وإبراهيم عليهما السلام في أن كلًا منهما شفقة على الكافرين ورجاء لنجاتهم من العذاب بحسن المثاب، ولعله سبحانه كرر لقد في صدرها عطفًا على ما في قصة نوح للتنبيه على مثل الأغراض، لأن قد للتوقع فجاءت لتؤذن بأن السامع في حال توقع لذلك لأنه إذا انقضت قصة الخبر عما بعدها فقال تعالى: {ولقد} قال الرماني: ودخلت اللام لتأكيد الخبر كما يؤكد القسم: {جاءت رسلنا} أي الذين عظمتهم من عظمتنا، قيل: كانوا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام: {إبراهيم} هو خليل الله عليه السلام: {بالبشرى} أي التي هي من أعظم البشائر وهي إكرامه بإسحاق عليه السلام ولدًا له من زوجته سارة- رضي الله عنهم- ا، جاءوه في الصفة التي يحبها وهي صفة الأضياف، فلم يعرفهم مع أنه الخليل بل إنكارهم كما قال تعالى في الذاريات: {قال سلام قوم منكرون} [الذاريات: 25] فيحمل إنكاره أولًا على الاستغراب بمعنى أنه لم ير عليهم زيّ أهل تلك البلاد ولا أثر سفر، فكأنه قيل: ما كان من أمرهم؟ فقيل: {قالوا سلامًا} أي سلمنا عليك سلامًا عظيمًا: {قال سلام} أي ثابت دائم عليكم لا زوال له أبدًا، فللرفع مزية على النصب لأنه إخبار عن ثابت، والنصب تجديد ما لم يكن، فصار مندرجًا في: {فحيوا بأحسن منها} [النساء: 86] ثم أكرم نزلهم وذهب يفعل ما طبعه الله عليه من سجايا الكرم وأفعال الكرام في أدب الضيافة من التعجيل مع الإتقان: {فما لبث} أي فتسبب عن مجيئهم وتعقبه أنه ما تأخر: {أن جاء بعجل حنيذ} أي مشوي على حجارة محماة في أخدود وفوقه حجارة محماة ليشتد نضجه، فكان بعد الشيّ يقطر دسمه لأنه سمين، كل ذلك وهو لا يعرف أنهم ملائكة، بل هو قاطع بأنهم ممن يأكل، وهذا ناظر إلى قول قوم نوح: {وما نرى لكم علينا من فضل} وقوله: {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} الآية، أي إن الله جعل المعاني في القلوب وناط بها السعادة والشقاوة، وقد تخفي تلك المعاني كما خفي على أكمل أهل ذلك الزمان أن ضيفه ملائكة حتى خاف منهم وقد أتوه بالبشرى، فلا ينبغي لأحد أن يحتقر أحدًا إلا بما أذن الله فيه.
ولما وضع الطعام بين أيديهم لم يلموا به: {فلما رأى أيديهم} أي الرسل عقب الوضع سواء: {لا تصل إليه} أي إلى العجل الذي وضعه ليأكلوه: {نكِرهم} أي اشتدت نكارته لهم وانفعل لذلك، وهذا يدل على ما قال بعض العلماء: إن نكر أبلغ من أنكر: {وأوجس} أي أضمر مخفيًا في قلبه: {منهم خيفة} أي عظيمة لما رأى من أحوالهم وشاهد من جلالهم، وأصل الوجوس: الدخول، والدليل- على أن خوفه كان لعلمه بالتوسم أنهم ملائكة نزلوا لأمر يكرهه من تعذيب من يعز عليه أو نحو هذا- أنهم: {قالوا لا تخف} ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا أرسلنا} أي ممن لا يرد أمره: {إلى قوم لوط} فإنهم نفوا الخوف عنه بالإعلام بمن أرسلوا إليه، لا بكونهم ملائكة، قالوا ذلك وبشروه بالولد: {وامرأته} أي جاءته الرسل بالبشرى أي ذكروها له والحال أن زوجة إبراهيم التي هي كاملة المروءة وهي سارة: {قائمة} قيل: على باب الخيمة لأجل ما لعلها تفوز به من المعاونة على خدمتهم، فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله: {بالبشرى}، {فضحكت} أي تعجبت من تلك البشرى لزوجها مع كبره، وربما طنته من غيرها لأنها- مع أنها كانت عقيمًا- عجوز، فهو من إطلاق المسبب على السبب إشارة إلى أنه تعجب عظيم: {فبشرناها} أي فتسبب عن تعجبها أنا أعدنا لها البشرى مشافهة بلسان الملائكة تشريفًا لها وتحقيقًا أنه منها: {بإسحاق} تلده: {ومن وراء إسحاق يعقوب} أي يكون يعقوب ابنًا لإسحاق، والذي يدل على ما قدّرته- من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت- ما يأتي عن نص التوراة، والحكم العدل على ذلك كله قوله تعالى في الذاريات: {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها} [الذاريات: 28-29]- الآية.
ولما شافهوها بذلك، صرحت بوجه العجب من أنه جامع بين عجبين في كونه منه ومنها بأن: {قالت يا ويلتي} وهي كلمة تؤذن بأمر فظيع تخف على أفواه النساء ويستعملنها إلى اليوم، لكنهن غيرن في لفظها كما غير كثير من الكلام؛ والويل: حلول الشر؛ والألف في آخره بدل عن ياء الإضافة، كنى بها هنا عن العجب الشديد لما فيه من الشهرة ومراجمة الظنون؛ وقال الرماني: إن معناها الإيذان بورود الأمر الفظيع كما تقول العرب: يا للدواهي! أي تعالين فإنه من أحيانك فحضور ما حضر من أشكالك.
ولما كان ما بشرت به منكرًا في نفسه بحسب العادة قالت: {ءَألد وأنا} أي والحال أني: {عجوز وهذا} أي من هو حاضري: {بعلي شيخًا} ثم ترجمت ذلك بما هو نتيجته فقالت مؤكدة لأنه- لما له من خرق العوائد- في حيز المنكر عند الناس: {إن هذا} أي الأمر المبشر به: {لشيء عجيب} فكأنه قيل: فماذا قيل لها؟ فقيل: {قالوا} أي الملائكة متعجبين من تعجبها: {أتعجبين من أمر الله} أي الذي له الكمال كله، وهو لا ينبغي لك لأنك معتادة من الله بما ليس لغيركم من الخوارق، والعجب إنما يكون مما خرج عن أشكاله وخفي سببه، وأنت- لثبات علمك بالسبب الذي هو قدرة الله على كل شيء وحضوره لديك مع اصطفاء الله لكم وتكرر خرقه للعوائد في شؤونكم- لست كغيرك ممن ليس كذلك؛ ثم عللوا إنكارهم لتعجبها بقولهم: {رحمت الله} أي كرامة الذي له الإحاطة بصفات الجلال والإكرام: {وبركاته} أي خيراته النامية الثابتة: {عليكم} وبينوا خصوصيتهم بإسقاط أداة النداء مدحة لهم فقال: {أهل البيت} قد تمرنتم على مشاهدة العجائب لكثرة ما ترون من آثاره بمثل ذلك وغيره؛ ثم علل إحسانه إليهم مؤكدًا تثبيتًا لأصل الكلام الذي أنكرته فقال: {إنه} أي بخصوص هذا الإحسان: {حميد مجيد} أي كثير التعرف إلى من يشاء من جلائل التعمم وعظيم المقدور بما يعرف أنه مستحق الحمد على المجد، وهو الكرم الذي ينشأ عنه الجود. اهـ.